فصل: ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكرعدة حوادث

في هذه السنة ليلة الأحد العشرين من صفر زلزلت الأرض بالموصل وديار الجزيرة والعراق وغيرها زلزلة متوسطة‏.‏

وفيها اشتد الغلاء بالموصل وديار الجزيرة جميعها فأكل الناس الميتة والكلاب والسنانير فقلت الكلاب والسنانير بعد أن كانت كثيرة‏.‏

ولقد دخلت يومًا إلى داري فرأيت الجواري يقطعن اللحم ليطبخنه فرأيت سنانير استكثرتا فعددتها فكانت اثني عشر سنورًا ورأيت اللحم في هذا الغلاء في الدار وليس عنده من يحفظه من السنانير لعدمها وليس بين المرتين كثير‏.‏

وغلا مع الطعام كل شيء فبيع رطل الشيرج بقيراطين بعد أن كان بنصف قيراط قبل الغلاء وأما قبل ذلك فكان كل ستين رطلًا بدينار‏.‏

ومن العجب أن السلق والجزر والشلجم بيع كل خمسة أرطال بدرهم وبيع البنفسج كل ستة أرطال بدرهم وبيع في بعض الأوقات كل سبعة أرطال بدرهم وهذا ما لم يسمع بمثله‏.‏

فإن الدنيا ما زالت قديمًا وحديثًا إذا غلت الأسعار متى جاء المطر رخصت إلا هذه السنة فإن الأمطار ما زالت متتابعة من أول الشتاء إلى آخر الربيع وكلما جاء المطر غلت الأسعار

وهذا ما لم يسمع بمثله فبلغت الحنطة مكوك وثلث بدينار وقيراط يكحون وزنه خمسة وأربعين رطلًا دقيقًا بالبغدادي وكان الملح مكوك بدرهم فصار المكوك بعشرة دراهم وكان الأرز مكوك باثني عشر درهمًا فصار المكوك بخمسين درهمًا وكان التمر كل أربعة أرطال وخمسة أرطال بقيراط فصار كل رطلين بقيراط‏.‏

ومن عجيب ما يحكى أن السكر النادر الأسمر كان كل رطل بدرهم وربع وكان السكر الأبلوج المصري النقي كل رطل بدرهمين فصار السكر الأسمر كل رطل بثلاثة دراهم ونصف والسكر الأبلوج كل رطل بثلاثة دراهم وربع وسبه أن الأمراض لما كثرت واشتد الوباء قالت النساء‏:‏ هذه الأمراض باردة والسكر الأسمر حار فينفع منها والأبلوج بارد يقويها وتبعهن الأطباء استمالة لقلوبهن ولجهلهم فغلا الأسمر بهذا السبب وهذا من الجهل المفرط‏.‏

وما زالت الأشياء هكذا إلى أول الصيف واشتد الوباء وكثر الموت والمرض في الناس فكان يحمل على النعش الواحد عدة من الموتى فممن مات فيه شيخنا عبد المحسن بن عبد الله الخطيب الطوسي خطيب الموصل وكان من صالحي المسلمين وعمره ثلاث وثمانون سنة وشهور‏.‏

وفيها انخسف القمر ليلة الثلاثاء خامس عشر صفر‏.‏

وفيها هرب أمير حاج العراق وهو حسام الدين أبو فراس الحلي الكردي والورامي وهو ابن أخي الشيخ ورام وكان عمه من صالحي المسلمين وخيارهم من أهل الحلة السيفية فارق الحاج بين مكة والمدينة وسار إلى مصر‏.‏

حكى لي بعض أصدقائه أنه إنما حمله على الهرب كثرة الخرج في الطريق وقلة المعونة من الخليفة ولما فارق الحاج خافوا خوفًا شديدًا من العرب فأمن الله خوفهم ولم يذعرهم ذاعر في جميع الطريق ووصلوا آمنين إلا أن كثيرًا من الجمال هلك أصابها غدة عظيمة فلم يسلم إلا القليل‏.‏

وفيها في آب جاء مطر شديد ورعد وبرق ودام حتى جرت الأودية وامتلأت الطرق بالوحل ثم جاء الخبر من العراق والشام والجزيرة وديار بكر أنه كان عندهم مثله ولم يصل إلينا بالموصل أحد إلا وأخبر أن المطر كان عندهم مثله في ذلك التاريخ‏.‏

وفيها كان في الشتاء ثلج كثير ونزلت بالعراق فسمعت أنه نزل في جميع العراق حتى في البصرة أما إلى واسط فلا شك فيه وأما البصرة فإن الخبر لم يكثر عندنا بنزوله فيها‏.‏

وفيها خربت قلعة الزعفران من أعمال الموصل وهي حصن مشهور يعرف قديمًا بدير الزعفران وهو على جبل عال قريب من فرشابور‏.‏

وفيها أيضًا خربت قلعة الجديدة من بلد الهكارية من أعمال الموصل أيضًا وأضيف عملها وفيها في ذي الحجة سار جلال الدين بن خوارزم شاه من تبريز إلى بلد الكرج قاصدًا لأخذ بلادهم واستئصالهم وخرجت السنة ولم يبلغنا أنه فعل بهم شيئًا ونحن نذكر ما فعله بهم سنة ثلاث وعشرين وستمائة إن شاء الله‏.‏

وفيها ثالث شباط سقط ببغداد ثلج وبرد الماء بردًا شديدًا وقوي البرد حتى مات به جماعة من الفقراء‏.‏

وفيه في ربيع الأول زادت دجلة زيادة عظيمة واشتغل الناس بإصلاح سكر القورج وخافوا فبلغت الزيادة قريبًا من الزيادة الأولى ثم نقص الماء واستبشر الناس‏.‏

  ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة

  ذكر ملك جلال الدين تفليس

في هذه السنة ثامن ربيع الأول فتح جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة تفليس من الكرج وسبب ذلك أنا قد ذكرنا سنة اثنتين وعشرين وستمائة الحرب بينه وبينهم وانهزامهم منه وعوده إلى تبريز بسبب الخلف الواقع فيها فلما استقر الأمر في أذربيجان عاد إلى بلد الكرج في ذي الحجة من السنة وخرجت سنة اثنتين وعشرين وستمائة ودخلت هذه السنة فقصد بلادهم وقد عادوا فحشدوا وجمعوا من الأمم المجاورة لهم اللان واللكز وقفجاق وغيرهم فاجتمعوا في جمع كثير لا يحصى فطمعوا بذلك ومنتهم أنفسهم الأباطيل ووعدهم الشيطان الظفر وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا فلقيهم وجعل لهم الكمين في عدة مواضع والتقوا واقتتلوا فولى الكرج منهزمين لا يلو ي الأخ على أخيه ولا الوالد على ولده وكل منهم قد أهمته نفسه وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب فلم ينج منهم إلا اليسير الشاذ الذي لا يعبأ به وأمر جلال الدين عسكره أن لا يبقوا على أحد وأن يقتلوا من وجدوا فتبعوا المنهزمين يقتلونهم وأشار عليه أصحابه بقصد تفليس دار ملكهم فقال‏:‏ لا حاجة لنا إلى أن نقتل رجالنا تحت الأسوار إنما إذا أفنيت الكرج أخذت البلاد صفوًا عفوًا‏.‏

ولم تزل العساكر تتبعهم وتستقصي في طلبهم إلى أن كادوا يفنونهم فحينئذ قصد تفليس ونزل بالقرب منها‏.‏

وسار في بعض الأيام في طائفة من العسكر وقصدها لينظر إليها ويبصر مواضع النزول عليها وكيف يقاتلها فلما قاربها كمن أكثر العسكر الذي معه في عدة مواضع ثم تقدم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس فلما رآه من بها من الكرج طمعوا فيه لقلة من معه ولم يعلموا أنه معهم فظهروا إليه فقاتلوه فتأخر عنهم فقوي طمعهم فيه لقلة من معه فظنوه منهزمًا فتبعوه فلما توسطوا العساكر خرجوا عليهم ووضعوا السيف فيهم فقتل أكثرهم وانهزم الباقون إلى المدينة فدخلوها وتبعهم المسلمون فلما وصلوا إليها نادى المسلمون من أهلها بشعار الإسلام وباسم جلال الدين فألقى الكرج بأيديهم واستسلموا لأنهم كانوا قد قتل رجالهم في الوقعات المذكورة فقل عددهم وملئت قلوبهم خوفًا ورعبًا فملك المسلمون البلد عنوة وقهرًا بغير أمان وقتل كل من فيه من الكرج ولم يبق على كبير ولا صغير إلا من أذعن بالإسلام وأقر بكلمتي الشهادة فإنه أبقى عليه وأمرهم فتختنوا وتركهم‏.‏

ونهب المسلمون الأموال وسبوا النساء واسترقوا الأولاد ووصل إلى المسلمين الذين بها بعض الأذى من قتل ونهب وغيره‏.‏

وتفليس هذه من أحصن البلاد وأمنعها وهي على جانبي نهر الكر وهو نهر كبير ولقد جل هذا الفتح وعظم موقعه في بلاد الإسلام وعند المسلمين فإن الكرج كانوا قد استطالوا عليهم وفعلوا بهم ما أرادوا فكانوا يقصدون أي بلاد أذربيجان أرادوا فلا يمنعهم عنها مانع ولا يدفعهم عنها دافع وهكذا أرزن الروم حتى إن صاحبها لبس خلعة ملك الكرج ورفع على رأسه علمًا في أعلاه صليب وتنصر ولده رغبة في نكاح ملكة الكرج وخوفًا منهم ليدفع الشر عنه وقد تقدمت القصة وهكذا دربند شروان‏.‏

وعظم أمرهم إلى حد أن ركن الدين بن قلج أرسلان صاحب قونية وأقصرا وملطية وسائر بلاد الروم التي للمسلمين جمع عساكره وحشد معها غيرها فاستكثر وقصد أرزن الروم وهي لأخيه طغرل شاه بن قلج أرسلان فأتاه الكرج وهزموه وفعلوا به وبعسكره كل عظيم وكان أهل دربند شروان معهم في الضنك والضيقة‏.‏

وأما أرمينية فإن الكرج دخلوا مدينة أرجيش وملكوا قرس وغيرها وحصروا خلاط فلولا أن الله سبحانه من على المسلمين بأسر إيواني مقدم عساكر الكرج لملكوها فاضطر أهلها إلى أن بنوا لهم بيعة في القلعة يضرب فيها الناقوس فرحلوا عنهم وقد تقدم تفصيل هذه الحلمة‏.‏

ولم يزل هذا الثغر من أعظم الثغور ضررًا على المجاورين له من الفرس قبل الإسلام وعلى المسلمين بعدهم من أول الإسلام إلى الآن ولم يقدر أحد عليهم هذا الإقدام ولا فعل بهم هذه الأفاعيل فإن الكرج ملكوا تفليس سنة خمس عشرة وخمسمائة والسلطان حينئذ محمود بن محمود بن ملكشاه السلجوقي وهو من أعظم السلاطين منزلة وأوسعهم مملكة وأكثرهم عساكر فلم يقدر على منعهم عنها هذا مع سعة بلاده فإنه كان له الري وأعمالها وبلد الجبل وأصفهان وفارس وخوزستان والعراق وأذربيجان وأران وأرمينية وديار بكر والجزيرة والموصل والشام وغير ذلك وعمه السلطان سنجر له خراسان وما وراء النهر فكان أكثر بلاد الإسلام بأيديهم ومع هذا فإنه جمع عساكره سنة تسع عشرة وخمسمائة وسار ثم ملك بعده أخوه السلطان مسعود وملك الدكز بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأران وأطاعه صاحب خلاط وصاحب فارس وصاحب خوزستان وجمع وحشد لهم وكان قصاره أن يتخلص منهم ثم ابنه البهلوان بعده وكانت البلاد في أيام أولئك عامرة كثيرة الأموال والرجال فلم يحدثوا أنفسهم بالظفر بهؤلاء حتى جاء هذا السلطان والبلاد خراب قد أضعفها الكرج أولًا ثم استأصلها التتر لعنهم الله على ما ذكرنا ففعل بهم هذه الأفاعيل فسبحان من إذا أراد أمرًا قال له كن فيكون‏.‏

  ذكر مسير مظفر الدين صاحب إربل إلى الموصل وعوده عنها

في هذه السنة في جمادى الآخرة سار مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل إلى أعمال الموصل قاصدًا إليها‏.‏

وكان السبب في ذلك أنه استقرت القاعدة بينه وبين جلال الدين بن خوارزم شاه وبين الملك المعظم صاحب دمشق وبين صاحب آمد وبين ناصر الدين صاحب ماردين ليقصدوا البلاد التي بيد الأشرف ويتغلبوا عليها ويكون لكل منهم نصيب ذكره واستقرت القواعد بينهم على ذلك فبادر فظفر الدين إلى الموصل‏.‏

وأما جلال الدين فإنه سار من تفليس يريد خلاط فأتاه الخبر أن نائبه ببلاد كرمان واسمه بلاق حاجب قد عصى عليه على ما نذكره فلما أتاه الخبر بذلك ترك خلاط ولم يقصدها إلا أن عسكره نهب بعض بلدها وخرب كثيرًا منه وسار مجدًا إلى كرمان فانفسخ جميع ما كانوا عزموا عليه إلا أن مظفر الدين سار من إربل ونزل على جانب الزابن ولم يمكنه العبور إلى بلد الموصل‏.‏

وكان بدر الدين قد أرسل من الموصل إلى الأشرف وهو بالرقة يستنجده ويطلب منه أن يحضر بنفسه الموصل ليدفع مظفر الدين فسار منها إلى حران ومن حران إلى دنيسر فخرب بلد ماردين وأهله تخريبًا ونهبًا‏.‏

وأما المعظم صاحب دمشق فإنه قصد بلاد حمص وحماة وأرسل إلى أخيه الأشرف يقول‏:‏ إن رحلت عن ماردين وحلب وأنا عن حمص وحماة وأرسلت إلى مظفر الدين ليرجع عن بلد الموصل فرحل الأشرف عن ماردين وعاد كل منهم إلى بلده وخربت أعمال الموصل وأعمال ماردين بهذه الحركة فإنها كانت قد أجحف بها تتابع الغلاء وطول مدته وجلاء أكثر أهلها فأتتها هذه الحادثة فازدادت خرابًا على خراب‏.‏

  ذكر عصيان كرمان على جلال الدين

في هذه السنة في جمادى الآخرة وصل الخبر إلى جلال الدين أن نائبه بكرمان وهو أمير كبير اسمه بلاق حاجب قد عصى عليه وطمع في البلاد أن يتملكها ويستبد بها لبعد جلال الين عنها واشتغاله بما ذكرناه من الكرج وغيرهم وأنه أرسل إلى التتر يعرفهم قوة جلال الدين وملكه كثيرًا من البلاد وإن أخذ الباقي عظمت مملكته وكثرت عساكره وأخذ ما بأيديكم من البلاد‏.‏

فلما سمع جلال الدين ذلك كان قد سار يريد خلاط فتركها وسار إلى كرمان يطوي المراحل وأرسل بين يديه رسولًا إلى صاحب كرمان ومعه الخلع ليطمئن ويأتيه وهو غير محتاط ولا مستعد للامتناع منه فلما وصل الرسول علم أن ذلك مكيدة عليه لما يعرفه من عادته فأخذ ما يعز عليه وصعد إلى قلعة منيعة فتحصن بها وجعل من يثق به من أصحابه في الحصون يمتنعون بها وأسل إلى جلال الدين يقول‏:‏ إنني أنا العبد والمملوك ولما سمعت بمسيرك إلى هذه البلاد أخليتها لك لأنها بلادك ولو علمت أنك تبقي علي لحضرت بابك ولكني أخاف هذا جميعه والرسول يحلف له أن جلال الدين بتفليس وهو لا يلتفت إلى قوله فعاد الرسول فعلم جلال الدين أنه لا يمكنه أخذ ما بيده من الحصون لأنه يحتاج أن يحصرها مدة طويلة فوقف بالقرب من أصفهان وأرسل إليه الخلع وأقره على ولايته‏.‏

فبينما الرسل تتردد إذ وصل رسول من وزير جلال الدين إليه من تفليس يعرفه أن عسكر الملك الأشرف الذي بخلاط قد هزموا بعض عسكره وأوقعوا بهم ويحثه على العود إلى تفليس فعاد إليهم مسرعًا‏.‏

  ذكر الحب بين عسكر الأشرف وعسكر جلال الدين

لما سار جلال الدين إلى كرمان ترك بمدينة تفليس عسكرًا مع وزيره شرف الملك فقلت عليهم الميرة فساروا إلى أعمال أرزن الروم فوصلوا إليها ونهبوها وسبوا النساء وأخذوا من الغنائم شيئًا كثيرًا لا يحصى وعادوا فكان طريقهم على أطراف ولاية خلاط فسمع النائب عن الأشرف بخلاط وهو الحاجب حسام الدين علي الموصل فجمع العسكر وسار إليهم فأوقع بهم واستنقذ ما معهم من الغنائم وغنم كثيرًا مما معهم وعاد هو وعساكره سالمين‏.‏

فلما فعل ذلك خاف وزير جلال الدين منهم فأرسل إلى صاحبه بكرمان يعرفه الحال ويحثه على العود إليه ويخوفه عاقبة التواني والإهمال فرجع فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر وفاة الخليفة الظاهر بأمر الله

في هذه السنة في الرابع عشر من رجب توفي الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله وقد تقدم نسبه عند وفاة أبيه ـ ـ رضي الله عنه ـما ـ فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة وعشرين يومًا وكان نعم الخليفة جمع الخشوع مع الخضوع لربه والعدل والإحسان إلى رعيته وقد تقدم عند ذكر ولايته الخلافة من أفعاله ما فيه كفاية ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية فـ ـ رضي الله عنه ـ وأرضاه وأحسن منقلبه ومثواه فلقد جدد من العدل ما كان دارسًا وأذكر من الإحسان ما كان منسيًا‏.‏

وكان قبل وفاته أخرج توقيعًا إلى الوزير بخطه ليقرأه على أرباب الدولة وقال الرسول‏:‏ أمير المؤمنين يقول‏:‏ ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم أو نفذ مناك ثم لا يبين له أثر بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال فقرأوه فإذا في أوله بعد البسملة‏:‏ اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالًا ولا إغضاؤنا إغفالًا ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملًا وقد عفونا لكم ما سلف من إخراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح السمعة وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكًا لأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم وتمرجون باطلكم بحقه فيطيعكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون والآن قد بدل الله سبحانه بخوفكم أمنًا وبفقركم غنى وبباطلكم حقًا ورزقكم سلطانًا يقيل العثرة ويقبل المعذرة ولا يؤاخذ إلا من أصر ولا ينتقم إلا ممن استمر يأمركم بالعدل وهو يريده منكم وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم يخاف الله تعالى فيخوفكم مكره ويرجوا الله تعالى ويرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام‏.‏

ولما توفي وجدوا في بيت في داره ألوف رقاع كلها مختومة لم يفتحها فقيل له ليفتحها فقال‏:‏ لا حاجة لنا فيها كلها سعايات‏.‏

ولم أزل علم الله سبحانه مذ ولي الخلافة أخاف عليه قصر المدة لخبث الزمان وفساد أهله وأقول لكثير من أصدقائنا‏:‏ وما أخوفني أن تقصر مدة خلافته لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته فكان كذلك‏.‏

  ذكر خلافة ابنه المستنصر بالله

لما توفي الظاهر بأمر الله بويع بالخلافة ابنه الأكبر أبو جعفر المنصور ولقب المستنصر بالله وسلك في الخير والإحسان إلى الناس سيرة أبيه ـ رضي الله عنه ـ وأمر فنودي ببغداد بإفاضة العدل وإن من كان له حاجة أو مظلمة يطالع بها تقضى حاجته وتكشف مظلمته‏.‏

فلما كان أول جمعة أتت على خلافته أراد أن يصلي الجمعة في المقصورة التي كان يصلي فيها الخلفاء فقيل له إن المطبق الذي يسلك يه إليها خراب لا يمكن سلوكه فركب فرسًا وسار إلى الجامع جامع القصر ظاهرًا يراه الناس بقميص أبيض وعمامة بيضاء بسكاكين حرير ولم يترك أحدًا يمشي معه بل أمر كل من أراد أن يمشي معه من أصحابه بالصلاة في الموضع الذي كان يصلي فيه وسار هو ومعه خادمان وركابدار لا غير وكذلك الجمعة الثانية حتى أصلح له المطبق‏.‏

وكان السعر قد تحرك بعد وفاة الظاهر بأمر الله ـ رضي الله عنه ـ فبلغت الكارة ثمانية عشر قيراطًا فأمر أن تباع الغلات التي له كل كارة بثلاثة عشر قيراطًا فرخصت الأسعار واستقامت الأمور‏.‏

  ذكر الحرب بين كيقباذ وصاحب آمد

في هذه السنة في شعبان سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو ابن قلج أرسلان ملك بلاد الروم إلى بلاد المللك المسعود صاحب آمد وملك عدة من حصونه‏.‏

وسبب ذلك ما ذكرناه من اتفاق صاحب آمد مع جلال الدين بن خوارزم شاه والملك المعظم صاحب دمشق وغيرهما على خلاف الأشرف فلما رأى الأشرف ذلك أرسل إلى كيقباذ ملك الروم وكانا متفقين يطلب منه أن يقصد بلد صاحب آمد ويحاربه وكان الأشرف حينئذ على ماردين فسار ملك الروم إلى ملطية وهي له فنزل عندها وسير العساكر إلى ولاية صاحب آمد ففتحوا حصن منصور وحصن سمكاراد وغيرهما فلما رآى صاحب آمد ذلك راسل الأشرف وعاد إلى موافقته فأرسل الأشرف إلى كيقباذ يعرفه ذلك ويقول له ليعيد إلى صاحب آمد ما أخذ منه فلم يفعل وقال‏:‏ لم أكن نائبًا للأشرف يأمرني وينهاني‏.‏

فاتفق أن الأشرف سار إلى دمشق ليصلح أخاه الملك المعظم وأمر العساكر التي له بديار الجزيرة بمساعدة صاحب آمد إن أصر ملك الروم على قصده فسارت عساكر الأشرف إلى صاحب آمد وقد جمع عسكره ومن ببلاده ممن يصلح للحرب وسار إلى عسكر ملك الروم وهم يحاصرون قلعة الكختا بعد الهزيمة وهي من أمنع الحصون والمعاقل فلما ملكوها عادوا إلى صاحبها‏.‏

  ذكر حصر جلال الدين مدينتي آني وقرس

في هذه السنة في رمضان عاد جلال الدين من كرمان كما ذكرناه إلى تفليس وسار منها إلى مدينة آني وهي للكرج وبها إيواني مقدم عساكر الكرج فيمن بقي معه من أعيان الكرج فحصره وسير طائفة من العسكر إلى مدينة قرس وهي للكرج أيضًا وكلاهما من أحصن البلاد وأمنعها فنازلهما وحصرهما وقاتل من بهما ونصب عليهما المجانيق وجد في القتال عليهما وحفظهما الكرج وبالغوا في الحفظ والاحتياط لخوفهم منه أن يفعل بهم ما فعل بأشياعهم من قبل بمدينة تفليس وأقام عليهما إلى أن مضى بعض شوال ثم ترك العسكر عليهم يحصرونهم وعاد إلى تفليس‏.‏

وسار من تفليس مجدًا إلى بلاد ابخار وبقايا الكرج فأوقع بمن فيها فنهب وقتل وسبى وخرب البلاد وأحرقها وغنم عساكره ما فيها وعاد منها إلى تفليس‏.‏

  ذكر حصر جلال الدين خلاط

قد ذكرنا أن جلال الدين عاد من مدينة آني إلى تفليس ودخل بلاد ابخاز وكان رحيله مكيدة لأنه بلغه أن النائب عن الملك الأشرف وهو الحاجب حسام الدين علي بمدينة خلاط قد احتاط واهتم بالأمر وحفظ البلد لقربه منه فعاد إلى تفليس ليطمئن أهل خلاط ويتكروا الاحتياط والاستظهار ثم يقصدهم بغتة فكانت غيبته ببلاد ابخاز عشرة أيام وعاد وسار مجدًا يطوي المراحل على عادته فلو لم يكن عنده من يراسل نواب الأشرف بالأخبار لفجأهم على حين غفلة منهم وإنما كان عنده بعض ثقاته يعرفهم أخباره وكتب إليهم فوصل الخبر إليهم قبل وصوله بيومين‏.‏

ووصل جلال الدين فنازل مدينة ملازكرد يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة ثم رحل عنها فنازل مدينة خلاط يوم الاثنين خامس عشر ذي القعدة فلم ينزل حتى زحف إليها وقاتل أهلها قتالًا شديدًا فوصل عسكره سور البلد وقتل بينهم قتل كثيرة ثم زحف إليها مرة ثانية وقاتل أهل البلد قتالًا عظيمًا فعظمت نكاية العسكر في أهل خلاط ووصلوا إلى سور البلد ودخلوا الربض الذي له ومدوا أيديهم في النهب وسبي الحريم‏.‏

فلما رأى أهل خلاط ذلك تذامروا وحرض بعضهم بعضًا فعادوا إلى العسكر فقاتلوهم فأخرجوهم من البلد وقتل بينهم خلق كثير وأسر العسكر الخوارزمي من أمراء خلاط جماعة وقتل منهم كثير وترجل الحاجب علي ووقف في نحر العدو وأبلى بلاء عظيمًا‏.‏

ثم إن جلال الدين استراح عدة أيام وعاود الزحف مثل أول يوم فقاتلوه حتى أبعدوا عسكره عن البلد‏.‏

وكان أهل خلاط مجدين في القتال حريصين على المنع عن أنفسهم لما رأوا من سوء سيرة الخوارزميين ونهبهم البلاد وما فيهم من الفساد فهم يقاتلون قتال من يمنع عن نفسه وحريمه وماله ثم أقام عليها إلى أن اشتد البرد ونزل شيء من الثلج فرحل عنها يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة من السنة وكان سبب رحيله مع خوف الثلج ما بلغه عن التركمان الإيوانية من الفساد ببلاده‏.‏

  ذكر إيقاع جلال الدين بالتركمان الإيوانية

كان التركمان الإيوانية قد تغلبوا على مدينة أسنة وأرمية من نواحي أذربيجان وأخذوا الخراج من أهل خوي ليكفوا عنهم واغتروا باشتغال جلال الدين بالكرج وبعدهم بخلاط وازداد طمعهم وانبسطوا بأذربيجان ينهبون ويقطعون الطريق والأخبار تأتي إلى خوارزم شاه جلال الدين بن خوارزم شاه وهو يتغافل عنهم لاشتغاله بما هو المهم عنده وبلغ من طمعهم أنهم قطعوا الطريق بالقرب من تبريز وأخذوا من تجار أهلها شيئًا كثيرًا ومن جملة ذلك أنهم اشتروا غنمًا من أرزن الروم وقصدوا بها تبريز فلقيهم الإيوانية قبل وصولهم إلى تبريز فأخذوا جميع ما معهم ومن جملته عشرون ألف رأس غنم‏.‏

فلما اشتد ذلك على الناس وعظم الشر أرسلت زوجة جلال الدين ابنة السلطان طغرل ونوابه في البلاد إليه يستغيثون ويعرفونه أن البلاد قد خربها الإيوانية ولئن لم يلحقها وإلا هلكت فاتفق هذا إلى خوف الثلج فرحل عن خلاط وجد السير إلى الإيوانية وهم آمنون مطمئنون لعلمهم أن خوارزم شاه على خلاط وظنوا أنه لا يفارقها فلولا هذا الاعتقاد لصعدوا إلى جبال لهم منيعة شاقة لا يرتقى إليها إلا بمشقة وعناء فإنهم كانوا إذا خافوا صعدوا إليها وامتنعوا بها فلم يرعهم إلا والعساكر الجلالية قد أحاطت بهم وأخذهم السيف من كل جانب فأكثروا القتل فيهم والنهب والسبي واسترقوا الحريم والأولاد وأخذوا من عندهم ما لا يدخل تحت الحصر فرأوا كثيرًا من الأمتعة التي أخذوها من التجار بحالها في الشذوات هذا سوى ما كانوا قد حلوه وفصلوه فلما فرغ عاد إلى تبريز‏.‏

  ذكر الصلح بين المعظم والأشراف نبتدئ

بذكر سبب الاختلاف فنقول‏:‏ لما توفي الملك العادل أبو بكر ابن أيوب اتفق أولاده الملوك بعده اتفاقًا حسنًا وهم‏:‏ الملك الكامل محمد صاحب مصر والملك المعظم عيسى صاحب دمشق والملك الأشرف موسى وهو صاحب ديار الجزيرة وخلط واجتمعت كلمتهم على دفع الفرنج عن الديار المصرية‏.‏

ولما رحل الكامل عن دمياط لما كان الفرنج يحصرونها صادفه أخوه المعظم من الغد وقويت نفسه وثبت قدمه ولولا ذلك لكان الأمر عظيمًا وقد ذكرنا ذلك مفصلًا ثم إنه عاد من مصر وسار إلى أخيه الأشرف ببلاد الجزيرة مرتين يستنجده على الفرنج ويحثه على مساعدة أخيهما الكامل ولم يزل به حتى أخذه وسار إلى مصر وأزالوا الفرنج ويحثه على مساعدة أخيهما الكامل ولم يزل به حتى أخذه وسار إلى مصر وأزالوا الفرنج عن الديار المصرية كما ذكرناه قبل فكان اتفاقهم على الفرنج سببًا لحفظ بلاد الإسلام وسر الناس أجمعون بذلك‏.‏

فلما فارق الفرنج مصر وعاد كل من الملوك أولاد العادل إلى بلده بقوا كذلك يسيرًا ثم سار الأشرف إلى أخيه الكامل بمصر فاجتاز بأخيه المعظم بدمشق فلم يستصحبه معه وأطال المقام بمصر فلا شك أن المعظم ساءه ذلك‏.‏

ثم إن المعظم سار إلى مدينة حماة وحصرها فأرسل إليه أخو من مصر ورحلاه عنها كارهًا فازداد نفورًا وقيل‏:‏ إنه نقل إليه عنهما أنهما اتفقا عليه والله أعلم بذلك‏.‏

ثم انضاف إلى ذلك أن الخليفة الناصر لدين الله ـ رضي الله عنه ـ كان قد استوحش من الكامل لما فعله ولده صاحب اليمن من الاستهانة بأمير الحاج العراقي فأعرض عنه وعن أخيه الأشرف لاتفاقهما وقاطعهما وراسل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي صاحب إربل يعلمه بانحرافه عن الأشرف واستماله واتفقا على مراسلة المعظم وتعظيم الأمر عليه فمال إليهما

ثم اتفق ظهور جلال الدين وكثرة ملكه فاشتد الأمر على الأشرف بمجاورة جلال الدين خوارزم شاه ولاية خلاط ولأن المعظم بدمشق يمنع عنه عساكر مصر أن تصل إليه وكذلك عساكر حلب وغيرها من الشام فرأى الأشرف أن يسير إلى أخيه المعظم بدمشق فسار إليه في شوال واستماله وأصلحه فلما سمع الكامل بذلك عظم عليه ثم إنها راسلاه أعلماه بنزول جلال الدين على خلاط وعظما الأمر عليه وأعلماه أن هذه الحال تقتضي الاتفاق لعمارة البيت العادلي وانقضت السنة والأشرف بدمشق والناس عل مواضعهم ينتظرون خروج الشتاء ما يكون من الخوارزميين وسنذكر ما يكون سنة أربع وعشرين وستمائة إن شاء الله تعالى‏.‏